رمضان في مصر
من بلدٍ يفوق تعداده خمسة وثمانون مليون نسمة ، تبدأ جولتنا للتعرّف على
الأجواء الرمضانية في أرضٍ جمعت بين الحضارة العريقة والتاريخ الإسلامي
المشرّف ، فمنذ أن دخل الإسلام
على يد القائد الإسلامي العظيم عمرو بن العاص رضي الله عنه ،
والمسلمون ينعمون بأداء هذه الشعيرة على مرّ الأعوام .
وعلى الرغم من تعدّد الأنماط الاجتماعية في مصر – تبعاً لتنوع مظاهر الحياة من
الشمال إلى الجنوب -
إلا أن الجميع قد أطبق على إبداء البهجة والسرور بدخول هذا الشهر الكريم ،
فما إن تبدأ وسائل الإعلام ببيان دخول الشهر وثبوت رؤية الهلال ، حتى يتحوّل
الشارع المصري إلى ما يشبه خلايا النحل ،فتزدحم الأسواق ، وتزدان الشوارع
وتنشط حركة التجارة بشكل ملحوظ ، حيث يتنافسون في توفير اللوازم الرمضانية
المختلفة ، وينطلق الأطفال في الشوارع والطرقات ، حاملين معهم فوانيس رمضان
التقليدية وهم ينشدون قائلين :
" حلو يا حلو ..... رمضان كريم ..... ياحلّو "
عدا عبارات التهنئة التي تنطلق من ألسنة الناس لتعبّر عن مشاعر الفرحة
التي عمّت الجميع .ولعلّ من أبرز الأمور التي تُلفت النظر هناك ، زيادة
معدّل الزيارات بين الأهل والأقارب ، والأصدقاء والأحباب ، كل هذا في جوٍّ أخوي
ومشاعر إنسانيّة فيّاضة ، فرمضان فرصة للتقارب الأسري من جهة وتعميق الروابط
الاجتماعية من جهة أخرى .
وحتى نقوم باستعراض يوميّات الصائم في مصر ، فلا بد لنا أن نبدأ جولتنا منذ الصباح الباكر ،
ننزل فيها إلى الشارع المصري ، لنلحظ المحال التجارية وقد اعتلى فيها صوت القرآن الكريم يُتلى
على ألسنة مشاهير القرّاء المصريين ، ويأتي في مقدّمهم : الشيخ عبدالباسط عبدالصمد و الشيخ محمد صديق المنشاوي
و الشيخ محمود خليل الحصري و الشيخ مصطفى إسماعيل ، وبهذا يظهر مدى ارتباط أبناء مصر
بالقرآن الكريم لاسيما في هذا الشهر الفضيل .
ومما نلاحظه في هذا الوقت انخفاض معدّل الحركة الصباحية بحيث تكون أقل مما هي في المساء ،
وتظل كذلك طيلة الصباح وحتى صلاة العصر ، وهذه هي البداية الحقيقية لليوم هناك ،
حيث يبدأ تدفّق الناس إلى الأسواق والمحال التجارية لشراء لوازم الإفطار من تمور وألبان وغيرهما ،
ولعل أوّل ما يقفز إلى الذهن هنا شراء الفول ، وهذا الطبق الرمضاني لا تكاد تخلو منه مائدة رمضانية ،
إذ إنها أكلة محبّبة لجميع الناس هناك ، على اختلاف طبقاتهم الاجتماعية ، ويمكنك أن تلمس ذلك
بملاحظة انتشار باعة الفول في كل مكان ، بصوتهم المميّز الذي يحث الناس على الشراء قائلين :
" إن خلص الفول....أنا مش مسئول "
" ما خطرش في بالك... يوم تفطر عندنا "
ويقودنا الحديث عن الفول إلى الحديث عن المائدة الرمضانية ، حيث يبدأ الناس بالإفطار بالتمر والرطب ،
مع شرب اللبن وقمر الدين ومشروب " الخشاف " ، وقد يحلو للبعض أن يشرب العصيرات الطازجة
كالبرتقال أو المانجو أوالشمام ، وبعد العودة من الصلاة ، يبدأ الناس بتناول الملوخيه والشوربة
والخضار المشكلة ، والمكرونه بالبشاميل ، وتزدان المائدة بالسلطة الخضراء أو سلطة الزبادي بالخيار ،
ومحشي ورق عنب ، والطبق الرئيسي الدجاج المشوي أو بعض المشويات كالكباب والكفتة .
وبعد الانتهاء من الإفطار لابد من التحلية ببعض الحلويات ، ومن أشهرها : الكنافة والقطايف والبقلاوة ،
والمهلّبية وأم علي ، وهذا بطبيعة الحال يتنوّع من مائدة إلى أخرى بحسب ذوق كل أسرة .
وبعد الانتهاء من الإفطار يقوم الجميع بتناول الشاي ، والشاي المصري كما هو معروف ثقيل ،
ويفضلونه في صعيد مصر أن يكون ثقيلا جدا ، وبعد أن ينتهوا من ذلك يبدأ الناس
بالاستعداد للصلاة والتوجّه إلى المساجد .
ينطلق الناس لأداء صلاة التراويح في مختلف المساجد حيث تمتليء عن آخرها بالمصلين من مختلف المراحل العمريّة
وللنساء نصيبٌ في هذا الميدان ، فلقد خصّصت كثير من المساجد قسماً للنساء يؤدّون فيه هذه المشاعر التعبّدية ،
وتُصلّى التراويح صلاة متوسّطة الطول حيث يقرأ الإمام فيها جزءاً أو أقل منه بقليل ،
لكن ذلك ليس على عمومه ، فهناك العديد من المساجد التي يُصلّي فيه المصلّون ثلاثة أجزاء ،
بل وُجد هناك من يُصلّي بعشرة أجزاء حيث يبدأ في الصلاة بعد العشاء وينتهي في ساعة متأخّرة في الليل .
وعلى أية حال ، فإن المساجد في مصر تمتليء بالمصلّين ، وتُقام فيها دروسٌ وعظية ومحاضرات إرشاديّة
طيلة هذا الشهر ، ويقوم العلماء والدعاة بالتنقل بين المحافظات
كي يعظوا الناس ويجيبوا عن أسئلتهم وإشكالاتهم .
واعتاد الناس في مصر على السهر بعد التراويح حتى أوقات متأخرة من الليل ، يقضونها في الميادين
والبيوت والمقاهي ، يتسامرون ويتبادلون الأحاديث ، ويحلو للبعض التنزّه عند النيل أو ركوب " الفلوكة "
أو السمر عند الشواطيء .
ومن العادات التي تميّز هذا البلد ، ما يُعرف بالمسحّراتي ، وهو شخص يقوم بالمرور على الأحياء والبيوت
كي يوقظهم وقت السحور بندائه الشهير :
" اصح يا نايم ... وحّد الدايم .... السعي للصوم .. خير من النوم ... سحور يا عباد الله "
وقد ظهرت عادة المسحّراتي – أو المسحّر كما في بعض الدول – في القرن الثالث الهجري ،
ومن ثمّ انتشرت في كثير من البلاد العربيّة ، وكان المسحّراتي يقوم بالضرب على طبلة معلّقة عليه بحبل
ويدقّ أبواب البيوت بعصاه منادياً لهم بأسمائهم ، إلا أن هذه العادة قد بدأت بالانحسار نتيجة توافر أدوات الإيقاظ الحديثة
من منبّه وغيرها ، فلم تعد تتواجد إلا في القرى والأحياء الشعبية .
هذا ، وللعشر الأواخر من رمضان طعمٌ آخر يعرفه المتعبّدون ، حيث تغدو هذه الأيام الفاضلة ميداناً يتسابق فيه
المؤمنون بالعبادة والذكر ، ويتنافسون في قراءة القرآن والتهجّد ، ومن أهمّ ما يميّز هذه الأيام ،
إقبال الناس على سنّة الاعتكاف في المساجد ، رغبةً في التفرّغ للطاعة ، واقتداءً بالنبي ( صلى الله عليه وسلّم )
ويصل هذا التسابق ذروته في ليلة السابع والعشرين من رمضان التي يلتمس الناس فيها ليلة القدر ،
فلا عجب إذاً أن تمتليء المساجد فيها بالآلاف ، يقفون بين يدي الله ويدعونه بخشوع وانكسار ،
تتسابق دموعهم على خدودهم في لحظات إيمانيّة عطرة .
وما إن تبدو لوائح العيد بالاقتراب حتى يبدأ الناس بتجهيز لوازم العيد ، خصوصا " كعك العيد "
والذي يحتاج إلى جهد كبير في تجهيزه ، وهذا الإقبال على الكعك يسبب زحاما شديدا على المخابز ،
ويضاف إلى ذلك الحلويات والمعجّنات والفطائر المتنوّعة كي تّقدّم إلى الضيوف أيام العيد ،
كما يخرج الناس إلى الأسواق بكثرة لشراء ملابس العيد والأحذية الجديدة .
وفي صبيحة العيد يتوجّه الناس رجالا ونساء إلى مصلّى العيد ، ثم يهنّيء المسلمون بعضهم بختام شهر رمضان
والدعاء بتقبّله ، وبقدوم العيد وسؤال الله تعالى دوام سعادته وفرحته ،
وتنطلق جموع الأطفال فرحة مسرورة بقدوم العيد ، لتذهب إلى الحدائق والمتنزّهات ، حيث المراجيح ،
ولا يخلو الجوّ من ألعاب ناريّة تضفي على الجوّ مزيداً من البهجة والأنس .