أصبحت محركات " بي دي ـ 180" الروسية للصواريخ الفضائية المتوسطة، سبباً لقيام دائرة مكافحة الاحتكار الأمريكية بإجراء تحقيق واسع، حيث تنازعت شركتان أمريكيتان (United Launch Alliance ( ULA) و Orbital Sciences ) لأن أحداهما لا تسمح للأخرى بأن تشتري من روسيا المحركات اللازمة لصواريخ "أنتاريس" التي تنفذ رحلات في إطار برامج ناسا، ويُشتبه بأن مؤسسي United Launch Alliance يحرمون منافسيهم بصورة غير قانونية من الوصول إلى مكونات هامة جداً لدى المقاول RD Amross، وهي شركة مشتركة تابعة لشركة "إنيرغوماش الروسية وشركة Pratt & Whitney Rocketdyne الأمريكية، حيث تقوم الأولى بتصنيع محركات "بي دي ـ 180 " بينما تقوم الثانية بتوريدها لشركة "ULA " من أجل الصواريخ الناقلة " أطلس".
وعلى خلفية توجيه اللوم إلى روسيا بزعم أن صادراتها ليست على المستوى التقني المطلوب وليست حديثة، فإن نزاع شركتي الطيران الفضائي الضخمتين على الوصول إلى التقنيات الفضائية الروسية يشهد بأن المسألة هنا ليست بهذه البساطة، فمن الواضح ـ خلافاً لتصريحات المتنافسين. أن الابتكارات التكنولوجية الروسية لا تقع في دائرة اهتمام البلدان النامية فقط.
وعلى سبيل المثال، فقد أبدت فرنسا اهتمامها بالتكنولوجيات الصاروخية الروسية، ويُعتبر الفرنسيون من بين أول من طلب من مكتب التصميم " فاكيل" الروسي منظومةَ الاطلاق العمودي لمنظومتها البحرية المضادة للطائرات Crotale Naval، ويتلخص " سر المهنة" الروسي في أن صواريخ منظومة أس 300/400 التي أُنتجت المنظومة الفرنسية على أساسها، تنطلق من مكانها عمودياً نحو الأعلى ومن ثم تُوَجه في الهواء عبر قناة التردد باتجاه الهدف، وهذا يقلص وقت الاستجابة للتهديد من الجو بشكل حاد، حوالى 6 مرات بالقياس إلى مثيلاتها الغربية التي تحتاج لتوجيه أجهزة الإطلاق نحو الهدف، وبالإضافة إلى أنها تستثني بالكامل ما يسمى " بالمنطقة الميتة" في الدفاع التي يمكن لصواريخ العدو أن تخترقها.
ومثل هذه الخاصية لا تمتلكها اليوم منظومات باتريوت الأمريكية المضادة للطائرات أو المعدات المستقبلية لمنظومة الدفاع الصاروخي التكتيكي " ثاد"، فالولايات المتحدة الأمريكية لم تبدأ إلا في الوقت الراهن بتصنيع صاروخ مشابه للصواريخ الروسية عالية التقنية متوسطة المدى من طراز "أرض ـ جو"، وذلك بالتعاون مع إيطاليا وألمانيا تحت اسم MEADS(Medium Extended Air Defense Missile Systems)، وبالمقابل كانت كوريا الجنوبية قد توجهت مباشرة إلى روسيا طلباً للمساعدة، وبدأت بتصنيع منظومتها الخاصة من الصواريخ المضادة للطائرات ( Cheongung M-SAM) ذات الانطلاق العمودي.
وهناك أمثلة أخرى على اقتباس التقنيات الروسية في صناعة الطيران، فمنذ 15 سنة وحتى الآن لا تستطيع موسكو وكييف إيجاد حل لمصير المشروع المشترك لطائرة " آن ـ 70" للنقل الحربي، وتتمثل فرادتها في محركات " دي ـ 27" المروحية التوربينية مع مراوح محورية، فبفضل هذه المحركات تستطيع الطائرة أن تقوم بالإقلاع والهبوط على مدارج قصيرة، كما أن التقنيات الروسية ـ الأوكرانية التي لم تُطبَق في نهاية ثمانينيات القرن العشرين كانت أساس البرنامج الأوروبي لطائرة المستقبل " FLA" التي ستتحول فيما بعد إلى طائرات نقل حربية "A- 400 M" التي تطابق طائرة " آن ـ 27" تماماً.
وهناك قصة مشابهة مع طائرة التدريب القتالية الإيطالية الجديدة "М-346 Master" التي تنتجها شركة Alenia Aeromacchi، فقد حصل الإيطاليون على الوثائق الخاصة بهذه الطائرة في بداية التسعينيات على أساس تسديد دين من مكتب "ياكوفليف" للتصميم، والآن يوجد في العالم طائرتان متشابهتان، طائرة " ياك ـ 130" التعليمية ـ التدريبية الروسية، وطائرة М-346 Master الأوروبية المستنسخة عنها بالكامل.
يقول البروفيسور فاديم كوزيولين من أكاديمية العلوم الحربية الروسية بأن" العلوم الروسية والصناعة تعيشان اليوم في منظومة عالمية واحدة، ولذلك من الغباء اختراع "الدراجة" في الوقت الذي يكون من الأسهل شراؤها ثم نسخها، وعلى هذه القاعدة إنشاء شيء ما خاص وجديد، فها هي الصين قد اشترت من روسيا تقنيات إنتاج مقاتلات " سو ـ27" وطورت صناعة الطيران لديها لخمس وعشرين سنة مقدماً، واليوم توجد لدى بكين مقاتلات من الجيل الخامس".
ومهما يكن من أمر، فإن هذه المشاهد تُظهر أن القدرة الحربية ـ التقنية للشركات الروسية لا تتخلف كثيراً عن مثيلاتها الأمريكية أو الأوروبية، وهناك مجالات تكون موسكو فيها مستعدة لاقتباس التقنيات (في مجال البصريات والإلكترونيات على سبيل المثال)، ولكن توجد أيضاً تلك المجالات التي تبدي موسكو نفسها الاستعداد لتتقاسم تجاربها مع الزملاء الأجانب.